السلم والسلام والإسلام مصطلحات مركزية في القرآن الكريم، دعا إليها، ورفع من شأنها، ووجه الأنظار إليها، فنحن نقرأ بخصوص دعوة المؤمنين إلى الالتزام بأحكام الإسلام جميعها، قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} [البقرة:208]، ونقرأ في صفة القرآن الكريم بأنه: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} [المائدة:16]، ونقرأ أيضاً دعوته سبحانه لعباده المؤمنين، أن يجدُّوا في العمل، ويكدوا في السعي من أجل دار باقية، لا من أجل دار فانية، ويقول في وصف تلك الدار: {والله يدعو إلى دار السلام} [يونس:25]، علاوة على أن -السلام- اسم من أسماء الله تعالى.
وإذا وجهنا أنظارنا تلقاء ساحات القتال، ومواطن النزال، ومخابر الرجال، وجدت خطاب القرآن يقول: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال:61] فالآية خطاب عام بالدعوة إلى الإستجابة للسلم، إذا ما طلبه الخصم.
ثم إننا نقرأ خطاباً من نوع آخر في القرآن، يقول: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} [محمد:35]، وهذا الخطاب ينهى المؤمنين عن الإستكانة للعدو، ومسالمته، ويخبر أن النصر مع المؤمنين إن صدقوا الله في جهادهم لأعدائهم.
إذن، نحن أمام خطابين قرآنيين، وإن شئت قل: أمام نصين قرآنيين، أحدهما: يدعو المؤمنين إلى الإستجابة إلى نداء السلم، والدخول في المسالمة، وقبول الصلح، وثانيهما: ينهي المؤمنين عن الضعف الإستكانة والمسالمة، ولا يخفاك ما يبدو من تعارض بين الآيتين على النحو الذي قررناه آنفاً.
وقد توقف المفسرون عند الآيتين الكريمتين، وذكروا أن الآيتين من حيث الظاهر متعارضتان، وكان لهم مسلكان في دفع هذا التعارض:
¤ المسلك الأول: يرى أصحاب هذا المسلك أن قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}، منسوخ بالآيات الآمرة بجهاد الكفار وقتالهم، كقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة:29]، وقوله سبحانه: {وقاتلوا المشركين كافة} [التوبة:36]، ونحو ذلك من الآيات الداعية إلى قتال أهل الكفر والعناد، ومن القائلين بالنسخ: قتادة وعكرمة والحسن البصري وبعض التابعين.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشدُّ من أزر هذا القول، وذلك فيما أخرجه أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}، قال: نسختها هذه الآية: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}.
¤ المسلك الثاني: يرى أن الآيتين محكمتان، ولا نسخ بينهما، بل كل آية منهما تتحدث عن حالة غير الحالة التي تتحدث عنها الآية الأخرى، وبالتالي يكون لكل حالة حكم مغاير عن حكم الحالة الأخرى، وإن كان المفسرون يختلفون وراء ذلك في توجيه الآيات، وبيان الحالات، فمنهم من قال: إن قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}، يتحدث عن حالة يكون فيها المسلمون في موقع قوة، وسيطرة على مجريات الأمور، فإذا طلب الأعداء -والحالة كذلك- السلم من المسلمين، فإن على المسلمين أن يستجيبوا لهم، ويعطوهم ما طلبوا من سلم ومسالمة.
أما قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون}، فيتحدث عن حالة يطلب المسلمون فيه السلم من الأعداء إبتداء، فهذا الذي نهت عنه الآية، وطلبت من المؤمنين ألا يدعوا المشركين إليه، بل عليهم أن يُعدُّوا العُدة، ويتأهبوا لملاقاة الأعداء، ويطلبوا العون من الله، فإنه ناصرهم لا محال.
إذن، لما كان مورد الآيتين مختلفاً، فقد إستدعى ذلك إختلافاً في الحكم، دون أن يعني ذلك تعارضاً بين الآيتين، لإختلاف الحالتين، وإختلاف الموردين اللذَيْن تتحدث عنهما كل آية.
وللعلم، فإن دعوة المسلمين الكفار إلى الصلحإ -كما يذكر الطبري- لم يرد لها ذكر في القرآن، وإنما الذي ورد أن يجنحوا للسلم، إن طلب منهم الكفار ذلك.
هذا، وقد رد الطبري قول القائلين بالنسخ فقال ما حاصله: ومن قال بأن هذه الآية منسوخة، فقول لا دلالة عليه من كتاب، ولا سُنَّة، ولا فطرة عقل.
ومع أن الطبري نفى أن يكون ثمة نسخ بين الآيتين، إلا أنه -كما يُفهم من كلامه- يذهب إلى أن قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} نص خاص عنى به بني قريظة، وكانوا يهوداً أهل كتاب، وقد أذن الله سبحانه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب، ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم، وروى عن مجاهد: {وإن جنحوا للسلم}، قال: قريظة.
ومنهم من نفى أن يكون بين الآيتين نسخ أو تخصيص، وإنما كل آية يُعمل بها في موضعها، ومحصل هذا التوجه كما يفيده كلام ابن كثير: أن الأصل قتال أهل الشرك، إذا أمكن ذلك، والعمل بهذا يكون على وفاق قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون}، أما إن كان المسلمون في حالة ضعف، بحيث لا يمكنهم قتال المشركين، فإنه -والحالة كذلك- يجوز مهادنتهم، ولو لم يطلب المشركين الصلح، وعلى هذا -بحسب ابن كثير- لا منافاة، ولا نسخ، ولا تخصيص بين الآيتين، فإحداهما: تقرر ما هو الأصل، وهو القوة، والأخرى: تقرر ما هو الإستثناء، وهو حال الضعف.
وقريب مما ذهب إليه ابن كثير، ما ذهب إليه الشوكاني، مع شيء من الإختلاف في التوجيه، حيث قرر الشوكاني أنه: لا مقتضى للقول بالنسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم إبتداء، ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص.
ومن الملاحظ أن أصحاب المسلك الثاني، قد إتفقوا على أن الآيتين محكمتان، وألا نسخ بينهما مطلقاً، غير أنهم إفترقوا بعض الشيء في توجيه الآيتين، فالطبري ذهب إلى أن آية الأنفال خاصة، وابن كثير لم ير التخصيص، ووجه الآيتين على أساس حالة المسلمين من القوة والضعف، والشوكاني وجَّه الآيتين على أساس الإبتداء في طلب السلم وعدمه.
فتحصل مما تقرر في هذا المسلك، أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه في قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون}، إنما هو طلب السلم والمسالمة من العدو في حال قدرة المسلمين، وخوف العدو منهم، فالنهي عن السلم هنا مقيد بكون المسلمين داعين له، وبكونهم في حالة قوة ومَنَعة، بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعة، أما السلم الوارد في قوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}، فإنه سِلْم طلبه العدو، فليست هذه الآية ناسخة لتلك ولا العكس، ولكلٍّ حالة خاصة.
بقي أن نشير هنا إلى أمرين، بهما تحصل الفائدة:
الأول: أن السلم الذي دعت إليه الآية القرآنية -آية الأنفال- إنما هو سلم يكون مع أقوام لم يكونوا قد إحتلوا البلاد، وأذلوا العباد، وإنما مع أقوام يُقيمون في ديارهم، وجرى بينهم وبين المؤمنين قتال لسبب من الأسباب، وإن شئت قل: إن آية الأنفال تنطبق على العدو الذي يكون له أرض ودولة خاصة به منذ الأصل، أما من إحتل أرض غيره، ثم دعا إلى سلام ومسالمة، فلا ينطبق عليه حكم الآية المشار إليها، ولا يصح عليه معنى الجنوح إلى السلم، إلا إذا صحت مصالحة المسروق للص السارق!
الثاني: أنه سبحانه قال: {وإن جنحوا للسلم}، ولم يقل: وإن طلبوا السلم، فأجبهم إليها، للتنبيه على أن الأعداء لا يجابون إلى السلم، إلا إذا عُلم من حالهم الرغبة فيه، لأنهم قد يُظهرون الميل إلى السلم كيداً أو خدعة، وعندئذ فلا ينبغي أن يجابوا إليه، وهذا مستفاد من دلالة الفعل جنح، أفاده ابن عاشور.
المصدر: موقع إسلام ويب.